Tuesday, May 27, 2008

أصل الأنسان .. منظور علمي - 1

كتابات - د.حامد علوان
توطئة :
ما قادني إلى البدء بالكتابة في هذا الموضوع الشائك والعويص والذي سيكون في مجموعة من المقالات هو الكتاب الذي ينشره الدكتور كامل النجار في حلقات متتابعة في هذا الموقع والمعنون
"تـأملات في القرآن" والذي أبرز في مقدمته نظرته في أصل الأديان والخلق وما إلى ذلك. ولا أريد هنا أن أدخل في الموضوع ذاته فذلك ليس من تخصصي ولكني وجدت من المفيد أن ألج في موضوع آخر ذي صلة وأطلع القارئ على النظريات السائدة حاليا حول أصل الإنسان ونشأته على الأرض وذلك من مفهوم علمي بحت بعيد عن المداخلات والمفاهيم الدينية المعروفة. وكما هو معلوم فأن الدين ( نظرية الخلق أو التكوين) والعلم ( نظرية التطور ) لا يتفقان أبدا في هذا الأمر، وبينما نرى علماء الدين يستندون إلى نصوص من كتب سماوية، ينبش علماء الأحياء والطبيعة الأرض بحثا عن أدلة مادية تثبت ادعاءاتهم بالتطور المادي والتدريجي للأحياء كافة يضمنها الإنسان، وفيما تخبرنا الكتب السماوية إن عمر الإنسان على الأرض لا يتعدى بأي حال من الأحوال عشرة آلاف سنة وذلك من تتبع أنساب الأنبياء وصولا إلى آدم وهو أول البشر، نرى أن متحجرات عظام الإنسان التي عثر عليها في أماكن متفرقة من الأرض يزيد عمرها عن مليوني سنة! . ولا يمكن الشك بأية حال في التقنيات المتبعة لتقدير أعمار الأحافير والتي تستخدم فيها النظائر المشعة فهي دقيقة ولا تحتمل نسبة عالية من الخطأ. وفي الحقيقة لا يستطيع الإنسان أن يكون متوسطا في قناعاته بهذا الأمر فأما أن يكون مؤمنا بالله وان الله خلق الإنسان والحيوان والشجر والجماد كما هي أو ان يكون مقتنعا بالتطور التدريجي للأحياء وعندها لن يكون مؤمنا بالخلق. ولا يخفى ان المتحمسين لنظرية التطور يأتونك بالادلة المادية المحسوسة على افتراضاتهم بينما لا يملك علماء الدين غير الأدلة الروحية والمعنوية التي يجب ان تصدقها في قلبك أولا ثم في عقلك.
ولا أدعي لنفسي هنا رأيا محددا في المواضيع التي سأطرحها بقدر رغبتي في تعريف العديد من القراء الذين لم يتسن لهم الإطلاع تفصيليا على حيثيات نظرية التطور وسأحاول عرضها بأسلوب ميسر مبتعدا عن التعقيدات والمصطلحات الصعبة التي تربك القارئ غير المتخصص. وفي النهاية هذا مجرد استعراض آراء للقارئ تصديقه او نفيه حسب قناعته انما غرضي عرض الأدلة العلمية التي عثر عليها العلماء والباحثون في الاحافير منذ عشرات العقود من السنين والتي بنوا عليها استنتاجاتهم وأسسوا نظرياتهم. ومعلوم ان عمر نظرية التطور كما نعرفها يربو على مائتي عام لكنها حتى اليوم عرضة للنقاش والجدل والطعن شأنها شأن اية نظرية محتمله بضمنها نظرية التكوين أو الخلق.
فذلكة تاريخية:
تشالز دارون 

صار بديهيا أن يتبادر الى الأذهان أسم العالم الإنكليزي جارلس دارون كلما مرت علينا لفظة التطور الاحيائي كون دارون اول من صاغ هذه النظرية بأسلوب علمي رصين ونشرها في كتابه الموسوم " أصل الانواع ". ولكن الحقيقة ان عددا من العلماء فكر في هذه النظرية قبل دارون بوقت غير قصير. واذا اردنا تتبع تفكير الانسان بنشأة الاحياء فسنغوص بعيدا في التاريخ، ولعل أول ما يستوقفنا في هذا المجال آراء الفيلسوف والشاعر الاغريقي زينوفانس (570 – 480 ق.م) والذي كان الاول بين الرافضين للمعتقد السائد ان الآلهة خلقت الانسان على هيئتها ولهذا صوّر الانسان الآلهة ورسمها بأشكال بشرية. وقد تنبه هذا الرجل الى أحافير ومتحجرات القواقع وعظام الاسماك التي عثر عليها مدفونة أو محفورة في الصخر فتبادر الى ذهنه ان هذه المخلفات المتحجرة تمثل عالما من الحيوان والنبات انقرض منذ وقت طويل ثم خلق عالم جديد مكانه ، ولعل هذه الفكرة تمثل العتبة الاولى في سلم ما يعرف اليوم بنظرية الكارثة في الجيولوجيا وعلم الاحافير ، ولا مجال الآن للخوض في تفاصيلها ولكن ربما نعرض لها في مكان آخر.
وفي العصور الوسطى كان الناس في اوروبا يجمعون العظام المتحجرة التي كان اغلبها عظاما للفيلة المنقرضة التي نعرفها اليوم باسم الماموث والتي تعود الى العصر الجليدي الاخير الذي انتهى قبل قرابة العشرة آلاف سنه لكنه استمر لعشرات الالاف من السنين ، ظن الناس ان تلك العظام تعود لاقوام عمالقة منقرضين لهذا كان يتم عرضها في الكنائس والاماكن العامة لما كانت تثيره من فضول ودهشة . أما القساوسة والرهبان فكانت لهم أيضا آراؤهم في الخلق ونشأة الانسان ولعل أغرب ما جاء به انسان ما كتبه الاسقف الايرلندي المعروف جيمس أوشر بكل ثقة (1581-1656) من ان الله خلق الارض وما عليها سنة 4004 ق.م بالتحديد!! ، ويبدو ان الرجل رغم ذياع صيته في زمانه لم يسمع في حياته ولم يقرأ عن الاقوام والانبياء الذين عاشوا قبل ذلك التاريخ القريب . وينبغي الاشارة الى ان المفكرين الاغريق والرومان راودتهم بعض التصورات حول امكانية تغير الكائنات الحية مع مرور الزمن وبقي الانسان يتأمل في طبيعة ونشوء الاحياء قرون طويلة الا ان كل ذلك أصطدم أخيرا بتعنت الكنيسة الاوروبية الذي طغى فترة غير قصيرة ساد خلالها مفهوم ان الله خلق كل كائن حي على حدة بهيئته وشكله ولاعلاقة لكائن بآخر أي مفهوم الشكل غير المتحول للأحياء.
في العصور الوسطى أيضا سادت الفكرة الشائعة والمسماة بفكرة الخلق الآني والتي تنص على أن الكائنات الحية تستطيع الظهور آنيا من مواد غير عضوية. بنيت هذه الفكرة على مشاهدات عملية لكن تفسيراتها كانت خاطئة، على سبيل المثال ظهور الديدان سريعا على بقايا اللحوم المتعفنة فالديدان ليس موجودة أصلا في اللحم ولكنها ظهرت فجأة بعد موت الحيوان أو الإنسان. أما التفسير العلمي لهذه العملية فلم يأت الا بعد وقت غير قصير عندما تم اكتشاف ان تلك الديدان ماهي الا يرقات لبعض الحشرات التي تضع بيوضها على اللحم سريعا بعد موت الحيوان . مثل هذه الآراء اي الخلق الآني كانت تدعمها الكنيسة ومن يقول بغيرها يفقد عنقه .
(1724-1804) ايمانويل كانت

ولعل الفيلسوف الالماني كانت (1724-1804) كان من الاوائل في طرح بعض الافكار المختلفة عن مفاهيم الخلق الثابت والخلق الآني معتمدا على مشاهداته للتشابه والاختلاف بين الاحياء منوها ان هذه الاحياء ربما انحدرت من سلف واحد . وبتفكير لايختلف كثيرا عما ردده فيما بعد منظرو التطور اللاحقين قال كانت ان بعض أعضاء الاحياء ربما تكيفت أو تطورت الى شكل جديد مختلف يلائم حاجة معينة عند الحيوان نظرا لظهور ظروف جديدة.
ولابد ان الكثير من القراء قد عرف عن العالم السويدي الشهير لينيوس ( 1701-1829) فهو أشهر من نار على جبل لوضعه الاسس الراكزة لعلم تصنيف الاحياء والمستخدمة ليومنا هذا. كان لينيوس مؤمنا بأن الله خلق كل كائن حي كما هو منذ الازل ولا مجال لاي تغيير أو تبديل في صفاته لكن تجاربه في تضريب النبات وحصوله على أنواع جديدة هزت قناعاته بثبوت أشكال الاحياء لكنه في النهاية ومن باب ولاءه للكنيسة عزى ذلك لمقدرة الله .
(1744-1829) جان ـ بابتيست لامارك

لكن أول من أرسى مفاهيم تطور الكائنات الحية في عصره هو الفرنسي لامارك (1744-1829) الذي لم يأخذ أحد بكلامه ولم يصدق أي انسان افتراضاته ربما لعدم تمكنه من طرح أفكاره بالشكل المقبول فهزأ به معاصروه من المفكرين ومات فقيرا منزويا في داره . أعاد دارون فيما بعد الاعتبار الى لامارك وناقش أفكاره في موضوع التطور . رأى لامارك ان الاحياء ليست اشياءا ثابتة عبر الزمن وكان مؤمنا ان بعض الاعضاء تظهر أو تختفي تبعا للحاجة في استعمالها ( مفهوم الاهمال والاستعمال ، العضو الذي لايستعمل يضمر ) وان أي كائن حي لابد أن يكيف في جسمه أو وضائف أعضاءه ليتماشى مع البيئة المحيطة به ( البقاء للاصلح ) . ولعل ابرز ما جاء به لامارك أفكاره التي جلبت عليه الهزء من معاصريه والمتعلقة بوراثة الصفات المكتسبة ، أي ان الصفة التي يكتسبها كائن ما خلال حياته سيورثها الى نسله! .
ألفرد راسل والاس
ألفرد راسل والاس

نظرية التطور لم تنضج في واقع الامر الا في مخيلة أثنين من المفكرين هما الانكليزي جارلس دارون والامريكي الفريد والاس ، كلاهما فكر بالموضوع نفسه على انفراد الا أن دارون كان الاول في نشر كتابه أصل الانواع والذي شرح فيه أراءه في الانتخاب الطبيعي بالطريقة التي أقنعت الكثيرين وأهاجت الكثيرين عليه أيضا . و دارون مثال ممتاز للعالم المتأني الذي لايطلق أفكاره الا بعد تقليبها مئات المرات ومناقشتها مع معاصريه قبل الاتيان بنتيجة محددة ، والرجل لم يعلن عن نظرته في تطور ونشوء الاحياء التي نشرها في كتابه الشهير الا بعد تمحيصها وتدقيقها وجمع الادلة لها لمدة عشرين سنة . وفكرة التطور أو الانتخاب الطبيعي أختمرت في ذهن دارون بعد قراءته لكتاب نشره المفكر الاقتصادي المعروف توماس مالتوس (1766-1834) حول النمو السكاني . تنبه مالتوس الى ان الازدياد المضطرد وغير المحدود في أعداد البشر والذي تقابله الكميات المحدودة من الموارد الطبيعية سيؤدي بالنهاية الى المجاعة والهلاك ( أمر ندركه نحن اليوم بمنتهى الوضوح ) . التقط دارون هذه الفكرة ليبني عليها آراءه في الانتخاب الطبيعي والتي تتلخص في ان صراع الاحياء من أجل البقاء يحتم عليها أن تطور في أعضائها أو وضائفها بما يتماشى أو يتلائم مع البيئة الجديدة وان الطبيعة ستختار أو تنتخب الاقوى للبقاء ، وفي هذا الصراع فأن أحياءا ستندثر وأخرى ستستمر الا انها ستكون بهيئة أخرى أكثر ملائمة للطبيعة .
على أية حال تغيرت الكثير من المفاهيم الداروينية في وقتنا الحاضر خاصة بعد ظهور العلوم الجديدة مثل علم الاحياء الجزيئي والوراثة الجزيئية التي اوجدت تفسيرات جديدة لمفهوم التطور كما ظهرت ايضا النظرية المعروفة بالداروينية الجديدة . ومهما يكن فقد كانت أفكار دارون تمثل نقطة الانكسار في مفهوم نشوء وارتقاء الاحياء وهي من الافكار العلمية الثورية ان جاز التعبير لما أحدثته من تغيير جذري في مداركنا للطبيعة.
كان لابد لهذه المقدمة السريعة والموجزة أن تكتب قبل الخوض في موضوع نشأة الانسان كي نعرف كيف تسلسلت الافكار التي قادت أخيرا الى ارساء نظرية ارتقاء الاحياء. ولايمكن بأية حال أعطاء الموضوع حقه في عجالة مثل هذه وهو الذي كتبت فيه المئات من الكتب ونشرت الالاف من الابحاث والمقالات واقيمت له مئات المؤتمرات العلمية لمناقشته . ولابد لنا أيضا لمزيد من المعرفة ان نطلع على كييفة نشأة البيئة التي تطورت عليها الاحياء والانسان أي نشوء الارض وتكونها وتشكلها منذ مليارات السنين ثم ظهور أول الكائنات الحية عليها وهذا ما سأعرضه في الحلقة القادمة .

No comments: