Tuesday, May 27, 2008

أصل الأنسان .. منظور علمي - 3

كتابات - د.حامد علوان

بدء ظهور الحياة :

طالما ان بداية أي كائن حي هو خلية و ان هذه الخلية لاتستطيع الاستمرار دون ان تحتوي داخلها على جزيئة د ن أ ، وطالما ان جزيئة الدنا هذه ليست سوى مجموعة من المواد الكيميائية ( سكر

وفوسفات و قواعد نيتروجينية ) ، فقد صار هم العلماء اثبات ان الخليقة ابتدأت بجزيئة دنا في بدايات عمر الارض .

في عام 1953 لمعت في ذهن الكيميائي الامريكي ميلر فكرة محاكاة جو الارض البدائي والذي كان قبل 3,5 مليار سنة تقريبا أي بعد برودة الارض مشبعا بالمواد النيتروجينية و غاز ثاني اكسيد الكربون و بخار الماء مختلطة فيما بينها بما يشبه الحساء . أراد ميلر ان يرى ما اذا كان بالامكان تكون مواد عضوية ( حياتية ) من المواد غير العضوية المتوفرة وتحت الظروف القاسية التي كانت سائدة على الارض وذلك لاثبات الفرضية القائلة ان الحياة ابتدأت من خلية واحدة في تلك الظروف البدائية. وضع ميلر كميات من الميثان والامونيا والهيدروجين والماء وكلها مواد غير عضوية في جهاز مغلق ثم رفع درجة حرارة الخليط ليصبح دافئا ومرر فوقه قطبين كهربائيين لاحداث شحنات كهربائية تشبه شحنات البرق الذي يفترض انه كان شائع الحدوث في ذلك العهد القديم . بعد اسبوع واحد قام ميلر بتحليل ما تجمع من مواد داخل الجهاز فوجد ما أثار الدهشة ، فقد تكونت مجموعة من الاحماض الامينية وهي مكونات البروتينات . الاستنتاج الذي خرج به ميلر ان فرضية ولادة الحياة الاولى في مثل تلك الظروف واردة جدا ولايمكن استبعادها عمليا . وقد فتحت نتائج هذه التجربة بابا واسعا من التكهنات عن أصل الحياة اذ طالما ان المواد الاساسية الداخلة في تركيب الخلية يمكن توليدها في جو يشبه جو الارض القديم فما المانع ان تكون تكونت فعلا في ذلك الوقت البعيد . ولا بد من التنويه ان هذه التجربة اعيدت فيما بعد عشرات المرات من قبل باحثين آخرين وأعطت النتائج ذاتها .

وليست تجربة ميلر الوحيدة التي اعتمدت نتائجها فقد اجريت تجارب مشابهه و بأستخدام مواد مختلفة فأعطت النتائج زخما أقوى لترسيخ نظرية النشوء البدائي . في عام 1961 قام باحث آخر هو جوان اورو باستخدام سيانيد الهيدروجين والامونيا وهما متوفران في الطبيعة في تجربة مماثلة لما قام به ميلر فكان ان حصل هذه المرة على كميات غير متوقعة من احد القواعد النيتروجينية المكونة لجزيئة الوراثة د ن أ الا وهو الادنين . وهذه الجزيئة ذات أهمية بالغة ليس لانها جزء من الدنا فحسب بل لانها تمثل مصدر الطاقة الرئيس لكل العمليات والتفاعلات الكيميائية الحياتية داخل الخلية ، فأي تفاعل كيمائي حياتي مهما كان كالتنفس أو البناء الضوئي او انتاج البروتينات او تكاثر ( انقسام ) الدنا يحتاج الى طاقة لتشغيله ومصدر هذه الطاقة واحد في الانسان او النبات او البكتريا وهو الادنين ثلاثي الفوسفات . ثم اعيدت التجارب لاحقا فأعطت نتائج مذهلة اذ ان أحماضا نووية ( شفرات الوراثة ) قد تشكلت .

أما المفاجأة الاكبر هذه المرة فقد جاءت من مكان آخر بعيد عن المختبرات ، لقد هبطت من السماء .

في الثامن والعشرين من أيلول عام 1969 ضرب مقاطعة ميرشستون في استراليا شهاب ضخم .

والشهب كما هو معروف تحترق أثناء دخولها جو الارض وتتحول الى كرة نار ولكن من بقايا ذلك الشهاب تمكن الباحثون من جمع مائة كيلوغرام من بقايا صخوره المتناثرة . أما العجب فأنهم اكتشفوا ان هذه الصخور تحوي بين طياتها 90 حامضا أمينيا ( تتكون البروتينات من 20 حامضا أمينيا لاغير) ، 19 من تلك الاحماض موجودة في بروتينات الاحياء على الارض . هذا الاكتشاف أعطى دفعة قوية أخرى لانصار نظرية النشوء والتطور ، فاذا كانت تلك الاحماض الامينية قادرة على تحمل الظروف القاسية على أسطح النيازك فما المانع انها تحملت الظروف القاسية جدا والتي كانت سائدة على سطح الارض قبل مليارات السنين .

بأمكاننا الافتراض الان انه طالما كان جو الارض خاليا من الاكسجين في تلك الحقب البعيدة فلا بد ان الخلايا التي تكونت لم تكن بحاجة له في نشاطها الحيوي ولا بد انها استخدمت ثاني اكسيد الكربون والماء في التفاعلات الضرورية لانتاج الكربوهيدرات والدهون والبروتينات . وهذه التفاعلات بحاجة الى طاقة لكن تلك الطاقة كلنت موجودة وهي ضوء الشمس . فهل كان ذلك مستحيلا ، الجواب كلا لان مثل تلك الخلايا لاتزال موجودة في عالمنا الحاضر وهي الطحالب وحيدة الخلية ( نبات ) . هذه الخلايا كما الحال في كل الخلايا النباتية تقوم بما يعرف بعملية البناء الضوئي وذلك بأخذ ستة جزيئات من ثاني اكسيد الكربون وستة جزيئات ماء و بمساعدة ضوء الشمس تنتج جزيئة سكر واحدة ( جلوكوز ) وستة جزيئات اكسجين ومجموعة من جزيئات الادنين ثلاثي الفوسفات وتستمر التفاعلات فيما بعد لانتاج المواد الاخرى . انها بالضبط انتاج مواد عضوية من مواد غير عضوية . أما ما تحتاجه هذه الخلايا كي تستمر وتتكائر فهو جزيئة الدنا والتي تفترض النظريات انها تكونت اولا بالطريقة التي اوضحتها تجارب ميلر و من جاء بعده والتي يعتقد انها استغرقت ملا يين السنين .

والسؤال الان هو هل ان الطحالب التي نراها اليوم هي نفسها التي تكونت في تلك الحقبة من عمر الارض ، الجواب لا ، انها انواع أخرى ولكنها انقرضت . أما كيف عرفنا بوجودها فالامر سهل لان متحجراتها تملا المعمورة ولا تحتاج الى نبش وتقليب في الارض للعثور عليها لانها تنتشر على سواحل المحيطات . تلك المتحجرات تعرف اليوم بأسم ستروماتولايت ، أقدمها يصل عمره الى 3,5 مليار سنة وهي مكونة من مستعمرات هائلة العدد من خلايا الطحالب الخضر المزرقة ( تعرف اليوم بأسم البكتريا القرمزية ) والتي لها قابلية البناء الضوئي لكن خلاياها عديمة النواة . سادت هذه الخلايا الاولية على الارض لفترة تقدر بملياري سنة وهي الفترة بين أقدمها وآخرها قبل انقراضها . كما ان هذه الخلايا هي المسؤولة عن اضافة الاكسجين الى جو الارض ( ناتج من عملية البناء الضوئي ) والذي مهد لاحقا لظهور الاحياء الاخرى .

وقبل الاسترسال في الحديث لابد من الاشارة الى نقطة هامة وجوهرية في الموضوع وهي ان نظرية التطور شيئ ونظرية نشوء الحياة شيئ آخر . نظرية التطور ومنذ بدايتها تناقش الاختلافات التي طرات على الكائنات الحية لتلائم الاختلافات الكبيرة في بيئتها بما يصاحب ذلك من تغير في الشكل أو الوظائف أو انقراض البعض وأستمرار البعض ولكن بأنواع جديدة أكثر ملائمة للبيئة . ونظرا للتطورات الضخمة والسريعة التي حدثت في العلوم الحياتية في القرن العشرين فقد استحدثت تفسيرات جديدة لنظرية التطور وكيفية حدوثه وذلك بعد اكتشاف الجزيئات الوراثية ( د ن أ ) والتي لم يكن دارون قد عرف عنها شيئا . أكتشاف هذه الجزيئات ووظائفها عنى بشكل أو بآخر ان تطور اي كائن حي لابد ان ينتج عن تغير في التركيبة الجينية ( طفرة وراثية ) التي تعطي صفات أحسن وأمثل للكائن الحي ، فأن لم تكن الجينات قادرة على احداث مثل هذه الطفرات فأن الكائن سيؤول مصيره للانقراض ( اذا استبعدنا دور الانسان الوحشي اليوم بقتل الاحياء حتى الانقراض ) . مثل تلك التغييرات تستغرق ملايين السنين طبعا . أما نظرية نشوء الحياة فهي شيئ مغاير اذ تناقش الكيفية التي يمكمن ان تكون الحياة ظهرت بها على الارض . وقد أحببت ان اشير بكثير من الاختصار الى هذه النظرية حتى يمكن لاحقا فهم نظرية التطور بشكل أفضل . وقبل الدخول في عرض الاراء حول أصل الانسان وعمره على كوكبنا والذي لايساوي أكثر من طرفة عين اذا قسناه بعمر الارض ، لابد من المرور ولو سريعا على تاريخ الاحياء التي سبقتنا والتي حسب نظرية التطور شكلت الاسلاف التي جئنا منها وهذا ما سأتناوله في الحلقة القادمة .

snobserver@yahoo.com

No comments: